محمد النويهي:
محمد محمدالدسوقى النويهي، الملقب بمحمد رشاد النويهى، ولد في 20/4/1917 بقرية ميت حبيش البحرية مركز طنطا، وكان والده من أوائل المتعلمين بالقرية، وعين بالقضاء الوطني بوظيفة مساعد قاض ويطلق علها حاليا أمين سر المحكمة.
تلقى تعليمه بمدرسة طنطا الإبتدائية الأميرية، وأثناء دراسته فيها، ألقى الشعر الحماسى ونقله عنه أصدقاؤه وتفوق في اللغة العربية واللغه الإنجليزية، وفى سن 14 اتجه لكتابة الأدب الروائى، وكان أول وآخر رواية كتبها حيث لم تنل استحسان والده. تخرج من مدرسة طنطا الثانوية شعبة أدبي عام 1935 وكان أمله أن يكون ناقدا أدبيا.
أحب مصر حبا جما ، ففي قريته التي صاحبته في حله وترحاله وفى قلبه وضميره، وفى كتبه ودراساته ..وهو العاشق لترابها والمنافح عن أصالته وحضارته، واستقبلته القرية بكل حب ووله وأكرمته وأشادت به، يوم انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها ، وعم الحزن القرية وسرى الألم بالنفوس ، ودمعت العيون واهتزت الأفئدة، رحمة ودعاء وأن تشمله رحمة الله ورضوانه، وعاشت القرية يوما حزينا يوم 13 فبراير 1980، يوم توارى جسد النويهى في مقبرة أسرته، ولكنه يظل حيا ومزهرا بأدبه وإبداعاته وحبه وعشقه لوطنه مصر المحروسة وقريته المعشوقة ميت حبيش البحرية.
أسماء كتبه
1-ثقافة الناقد الأدبي.
2- شخصية بشار.
3- نفسية أبى نواس.
4-الاتجاهات الشعرية في السودان.
5- طبيعة الفن ومسؤولية الفنان.
6-قضية الشعر الجديد.
7-الشعر الجاهلي: منهج في دراسته وتقويمه.
وبعض هذه الكتب في مجلدين يزيد كل مجلد عن 600صفحة. وكلها تتسم بالجدة والنضارة والعمق والذكاء، وتتميز بالعرض المشع الجذاب، والفهم الواعي المستنير.
وكالعادة للدراسة عن تطبيق منهج نقدي لا بد لنا أن نعلم أهم سمات هذا المنهج حتى نفهم طريقة تطبيقه ونفهم أكثر عن أغراض الناقد.
النقد النفسي:
تعريفه:
هـو المنهج الذي يستمد آلياته النـقدية مــن نظــرية التحليل النفـــسي التي أسسها الطبيب النـمساوي سيغموند فرويد فسر على ضوئها السلوك البشــري برده إلى منطقة اللاوعي ( اللاشعور)[1]
إن منطقة اللاشعـور هي خزان لمجموعة مــن الرغبات المكـبوتة التي أن تشبع بكيفيات مختلفة فقد نحلم بهذه الرغبات في أحلام يقظة أو نوم ، ونقد نجسدها من مجموعة من الأعمال الإبداعية ( شعر ، رسم موسيقى، ...)
مبادئ المنهج النفسي
يقوم المنهج النفسي على مجموعة من المبادئ أهمها :
- النص الأدبي مرتبط بلاشعور صاحبه
-وجود بنية نفسية متجذرة في لاوعي المبدع تتجلى بشكل رمزي على سطح النص ، وأثناء تحليل لابد من استحضار هذه البنية.
-يعتبر رواد المنهج النفسي الشخصيات الموجودة في الأعمال الأدبية شخصيات حقيقية لأنها تعبر عن رغبات ووقائع حقيقية مكبوتة في لاشعور المبدع.
-الأديب شخص عصابي يحاول أن يعرض رغباته في شكل رمزي مقبول اجتماعيا [2]
مجالات النقد النفسي
يركز المنهج النفسي في دراسته للأعمال الإبداعية على الجوانب مختلفة نذكر منها:
1-عملية الإبداع الفني:
إن العنصر النفسي أصل مــن أصول العـمل الأدبي، أي أنه تجــربة شعورية تستجيب لمؤثرات نفسية، والسؤال المطروح كيف تتم عملية الإبداع الفني والأدبي ؟
يرى فرويد أن العمل الأدبي يمكن النظر إليه من خلال علاقته بأنشطة بشرية ثلاثة: اللعب، التخيل والحلم . فالإنسان يلعب طفلا ويتخيل مراهقا ويحلم أحلام يقظة أو نوم وهو في كل هذه الحالات يشكل عالما خاصا به ، وما أشبه المبدع بالطفل الذي يلعب عندما يصنع عالما من خيال يصلح فيه من شأن الواقع .[3]
والإبداع شبيه بالتخيل، لأن التخيل عند المراهق يعادل اللعب عند الطفل.
والإبداع شبيه بالحلم من حيث أنه انفلات من الرقابة، ومن حيث أن الصور فيه رمزية لها ظاهر وباطن.
وقد ركز فرويد على هذا الجانب تحديدا – ارتباط الأدب بالحلم-لأن كلا منهما يمثل انفلاتا من الرقابة وهروبا من الواقع[4]ولذلك قسم فرويد النفس البشرية إلى مناطق ثلاثة:
أ-الأنا : وهو الجانب الظاهــر مــن الشخصية وهـذا الجانب يتأثر بعالم الواقــع مــن ناحية وبعالــم اللاشعور من ناحية أخرى ، وهو يميل أن تكون تصرفاته في حدود المبادئ الخــلقية التي يقــــــرها الواقع[5].
ب- الأنا العليا : وتتكون منذ الطفولة فالطفل يزن الأمور حسب نظرة والده، فالطفل يعجب بوالده الذي يجمع بين القوة والعطف وقد لخص الدكتور عبد العزيزالقوصي صفات هذه المنطقة بقوله : ً إنها النقد الأعلى الذي يشعر الأنا بالخطيئةً وهذا يعني أن هذه المنطقة تراقب الأنا ولا دخل لها بعملية الإبداع الفني .
ج- الهو أو الهي : يرى فرويد أن هذا الجانب من أهم الجوانب في حياة الإنسان، ومن صفاته :
-إنه لا يتجه وفق المبادئ الخلقية
-إنه جانب لاشعوري
-يسير على مبدأ تحقيق اللذة والألم
-لا يتقيد بقيود منطقية
-من مركباته النزعات الفطرية والوراثية، وأهمها النزعة الجنسية[6]
ولذلك اعتمد فرويد مجموعة من العقد أهمها الغريزة الجنسية ومن أبرز هذه العقد:
-عقدة أوديب: ميل الذكر إلى أمه جنسيا
-عقدة الكترا: وهي عكس العقدة السابقة، أي ميل البنت إلى والدها جنسيا
-العقدة النرجسية: حب المرء نفسه جنسيا.
-عقدة الخصاء: وهي خوف المرء خوفا لا شعوريا من فقدانه أعضاءه التناسلية عقابا له على إتيانه أفعالا محرمة.
فالإنسان حسب فرويد إنسان غير سوي تسره الغريزة الجنسية، وما يظهر من مظاهر الحماسة إشارة إلى هـذه الغـريزة ورمز لها.[7]
2- النص وسيرة المؤلف
وفي هذا التطبيق يفسر النص من خلال حية مؤلفه، في المقابل استنباط حياة المؤلف من خلال نصوصه. أي اتخاذ النص وثيقة تعين على سبر أغوار الكاتب النفسية.
ويحاول الناقد التقاط ما أمكنه من جزئيات السرية الذاتية للمؤلف: طفولته، نشأته، وظروف حياته، ومسودات كتبه واعترافاته، وكل ما من شأنه أن يساعد على تحليل نفسية الكاتب.
3- النص والمتلقي
وهنا يعنى الناقد بعلاقة العمل الأدبي بالآخرين، وتأثرهم به مجيبا بذلك على سؤال تردد طرحه كثيرا ,هو: لماذا يستثيرنا الأدب ؟
فأجاب البعض قائلا: إنه يستثيرنا لأنه يقدم في شكل رمزي، فنحن نعيش تجاربنا السابقة مع هذا النص.
وهنا يكون التركيز على المتلقي ومدى استجابته نفسيا لهذا العمل الأدبي.
ملامح النقد النفسي
هذا المنهج أقرب إلى التحليل النفسي منه إلى النقد الأدبي، فقد احتكم رواده إلى مجموعة من الآراء التي قررها بعض العلماء النفسانيين، ولاسيما الأطباء والمحللون، وعلى رأسهم فرويد وآدلر ويونغ وغيرهم، ولذلك علق عليه البعض ساخرا: ً إن هذا المنهج خرج من عيادات الأطباء ، ولم يخرج من بحوث الأدباءً[8].
رواد المنهج النفسي في النقد العربي
من أبرز الذين تأثروا بهذا المنهج وطبقوه في دراساتهم عباس محمود العقــاد الذي لم يكتف بتطبيقه على بعض النصوص الأدبية بل حاول أن ينظر له في مقال له بعنوان ًالنقد السيكولوجي الذي نشره عام 1961 مفضلا فيه المنهج النفسي على غيره من المناهج الأخرى.
أما جورج طرابيشي فقد مارس النقد النفسي في الكثير من كتابته ( أنثى ضد الأنوثة ، عقد أوديب في الرواية العربية ...) فهو بذلك من أكثر النقاد تطرفا في الدفاع عن هذا المنهج الذي يراه قادرا على دخول قلب العمل الأدبي . [9]
وهناك من عارض تطبيق هذا المنهج على النصوص الأدبية، يأتي فقي طليعتهم محمد مندور الذي يرى أن النص الأدبي لايمكن تحليله إلا بعناصره الداخلية والأدبية البحتة[10].
عيوب التطبيقات النفسانية
1- ما يطرحه علم النفس من آراء وأفكار حول النفس البشرية منه ما هو افتراضات لا ترقى إلى مستوى الحقائق .
2- هذا المنهج عبارة عن تحليل نفسي يختنق فيه النص الأدبي ، بحيث تضيع معه القيم الفنية والجمالية.
التركيز على المؤلف وإهمال النص الأدبي 3-
4- يسوي هذا المنهج بين النصوص الجيدة والرديئة
5- الإفراط في التفسير الجنسي للرموز الفنية .
6- الحط من قيمة الإنسان ، وجعله محكوما بالغرائز لاسيما الغريزة الجنسية .
7-الربط بين الإبداع والشذوذ
8- أهمل هذا المنهـج تأثر الأدب بالواقع الاجتماعي ، عندا جعل العوامل النفسيــة هي مصـدر الإبداع.
بعد التعرف على المنهج النقدي آن لنا النظر داخل تطبيقه على شعر أبي نواس:
نفسية أبي نواس
وقد كان من بين الشعراء العرب القدامى الذين حظوا بالدرس النفسي أبو نواس الذي تناوله كل من العقاد والنويهي بناءً على عقدتين متمايزتين، قد أُدرِجَ ذكرهما ضمن علم النفـس: الأول بنـاءً على عقـدة النرجسية، والثاني على عقـدة أوديب. وعلى الرغم من أسـبقية العقـاد زمنيـاً في دراسة أبي نواس نفسياً، فقد ارتأيت تقديم دراسة النويهي، نظراً لتمهيده لتطبيق المنهج النفـسي على الشاعر بصورة أكثر دقة ووضوحاً، وتشكيل العقدة النفسية التي انطلق منها في تتبُّع شعره التمهيد للعقـدة التي انطلق منها العقاد، وذلك كما سيتبين لاحقاً لدى وصولنا إلى دراسـة هذا الثاني المذكور، هذا مع الإشـارة إلى أنه لا يُفتَرَض بالنويهي أن يكون قد تغافل عن جوهرية العقدة التي اكتشفها لدى الشاعر، وعن ضرورة البحث فيها وتوضيحها بغية التأسيس لبحث الناقد الذي سبقه.
علمـاً أن النويهي حين طَبَّق المنهج النفسي على أبي نواس، لم يفعل ذلك انطلاقاً من إيمانه بجدوى هذا المنهج في الدراسة الأدبية بصورة عامة، إنما من إيمانه بأن شعر أبي نواس وما ينطوي عليه من خصائص معينة لا يمكن أن يُفهَم وتُسـبَر أسراره إلا بناءً عليه (1). فهو إذا ما وجد ضرورة في دراسة نفسـية ابن الرومي في كتابه " ثقافـة الناقـد الأدبـي "، فإنه لم يجـد ما يماثلها لدى دراسة " شـخصية بشـار " التي اكتفى بربطها بظروفها السياسية والاجتماعية والفكرية والجسـمية، أو لدى دراسـة " الاتجاهـات الشـعرية في السـودان " التـي ربطـها بما يماثـل ظروف بشـار، أو لدى دراسـة " الشـعر الجاهـلي " ، أو " قضيـة الشـعر الجـديد " (2). أو بعبـارة أخـرى: ربما أراد النويهـي أن يذهب إلى أن الناقـد حين يلتزم في نقـده بمنهج معـين، لا يحدث ذلك منه بصورة تلقائية غير مدروسة، بقـدر ما يحدث بناءً على ما يفرض كل أدب أو كل عمل أدبي ، بحسب الطابع الذي يسـمه : النفـسي أو الاجتماعي أو الأسـطوري. هذا وإن كان من المفترض بالنويهـي ألا يسرف في إحجامه عن الدرس النفـسي في المواضع التي حـددها، أو في سـواها، نظراً لِما للظروف الذاتية الفردية من دور رئيسي في تكوين الإبداع الأدبي، مهما كان للظروف الأخرى من حضور وطغيان. ونخص هنا ما يتعلق ببشـار الذي كان لا بد لحالته الجسمية من أن تنعكس بعمق على تكوينه النفـسي.
إن النويهي ـ على سـبيل المثال ـ لا يستطيع أن يدرس حب الخمرة لدى أبي نواس كما يدرسه لدى الشعراء الآخرين، لأن هذا الحب قد تحوَّل إلى خلاصة لأساس الشاعر النفسي المعقد، ولأن الخمرة لم تَعُـد تشـكّل لديه مجرد ذلك الشـراب الذي يمنح الشاربين الإحساس بالبهجة والمتعة، بل تحوّلت إلى ذلك الكائن الحي الذي لا يستطيع الانفصـال عنه، أو بالأحرى إلى شـقيقة الروح التي ذكـرها صراحة في بيت لـه، فمثلَتْ إذ هي في متناوله البديـل والمعوض عن المـرأة التي كانت عنه بعيدة المنـال: الأم أو الحبيبة (3) :
وبصورة أكثر تفصيلاً منا: الأم التي تشكلت لديه حيالها عقدة أوديب، بفعل تماسِّـه معها منذ طفولته دون الأب المفقود، وحُرِّمَتْ عليه بناءً على ما تفرِض الأحكام الدينيـة والأخلاقية والاجتماعية (5). هذا بالإضافـة إلى انصرافها عن خصِّـه بمفـرده بالحدب والحنان بعد زواجها الثاني من غير أبيـه. أما الحبيبة، فهي التي لم تبادله الحـب، ولم تشـبع ميلـه الفطري إلى الأنثى، ربما نفوراً مما علمَتْ من سلوكه الشـاذ، أو لِما أُشـيع عنها ـ هي الأخرى ـ من اتخـاذها سـلوكاً مماثلاً تجـاه الإناث. ولا شـك في أن النويهي قـد أراد من خلال توضيحه تعويض خمرة أبي نواس عن المـرأة أن يُذَكِّـر بنظريـة " أدلـر " التي تقوم في أساسها على محاولة الإنسـان من خلال ما يتخذ أحياناً من سلوك متميز خاص به أن يعوض عن مركب النقص الذي ربما يشعر بوجوده لديه بصورة واضحة (6).
علمـاً أنه توضح للنويهي بصورة مباشرة تمثيـل هذه الخمرة لأم أبي نواس ، وحبه لها حبـاً بَنَويـاً من خلال تسميتها الدِّرة التي تعني اللبن ، وتسمية شرب كأسها رضاعة (7):
تراضعُـوا دِرّةَ الصَّـهْباءِ بيْنهمُ وأوْجَبُـوا لنديم الكأْسِ ما يجـبُ (8)
وبإشارة النويهي إلى هاتين الكلمتين، وإلى سـواهما من الكلمات والعبارات في الشواهد التي أوردها، يبدو وكأنه يعمل بنظرية " جاك لاكـان " القائمة على التحليل النفسي من خلال اللغة التي يستخدمها المحـلَّل، وتَتَبُّع مافيها من خصوصية متفرد بها بغية سـبر أعماقه، واكتشاف ما فيها من مجاهيل كانت متخفية (9). إن لغـة الرضاعة والدِّرة في البيت السابق لا بد من أن تشكل أمام النويهي دلالة واضحة على عقدة أوديب لدى الشـاعر، هذه التي تمثلَتْ هنـا في تعلقـه بأمه إلى حد توقه للعودة معها نحـو طفولته الأولى، نحـو المرحلة الفمية، واتصاله بها ثانيـة كما لـو أنـه رضيع ، وما اسـتتبع هذا كله من خلع رغبتـه المحرمة على شـربه للخمـرة التي رأى فيها صورة معوضة عن أمـه لما حققَتْ له من إرواء .
كما تجلى للنويهـي في موضع آخـر تمثيل خمرة أبي نواس للمـرأة بصورتها العامـة الشـاملة لذينك الشطرين، حين وصف الشاعر عطفه عليها وتدلهـه بها وعدم تمكنه من فصل وجوده عن وجودها (10). علماً أنه كان بإمكان الناقد أن يتبين ذلك كله مكثفاً في كلمة " هوىً " التي برهنت بصورة واضحة كما عبارة " شقيقة الروح " على العلاقة الخاصة التي تربط الشاعر بالخمرة كما لو أنها امرأة حقيقية، ولا سيما حين أثبَتَ تركيزه على هذه الكلمة من خـلال تكرارها مرتين في البيتين الأخيرين، وتنويعه في صيغتيهما ما بين التعريف النّامّ على خصوصية تجربته العاطفية، والتنكير النّامّ على الحب العاطفي بصورة مطلقة غير محددة، وذلك بحسب ما أورد الجرجاني بشأن الدلالة البلاغية لكل من التعريف والتنكير (11) :
تـلـكَ ـ لا أعْـدَمـنـيـهَـا الـلّـــهُ ـ أنْـسِـي ، عِــدْلُ روحـي
يجْـنَـحُ القـلـبُ إلـيــهـا فـي الهـــوى أيَّ جُـنـوحِ
عطفـتْ نـفْـسِـي عـليـهـا بهــوى غـيْـرِ نَـــزُوحِ (12)
وإلى جانب ما سبق، تبيَّـن للنويهي أن خمرة أبي نواس شـكّـلَتْ السـرّ الذي يمدُّه بالحيـاة بأكملها، ويضيف إلى روحه روحـاً جـديدة (13) :
قـهْـوَةً تُقْـرِنُ فـي جِـسـْ ـمكَ مـعْ رُوحِـك رُوحَــا (14)
لكن الناقد اكتفى من هذا بأن استخلص الدافع الذي حـدا بالسُّـذَّج إلى تقديس الخمرة ، وتأليهها في بدايات الحيـاة البشـرية ، دون أن يمتد إلى استخلاص ما يمكن أن تكون قـد لبَّـتْ للشاعر لدى إمداده بالحياة والروح هاتين من غريزة البقـاء التي اهتمّ بإيرادها علم النفس ، والتي تأصّـلَتْ لدى كل إنسـان بصورة عامة ، ولدى أبي نواس وأمثاله الذين اتخذوا مذهب الإقبال على الدنيـا وملذاتها بصورة خاصة (15).
وربما تأكيداً لعثور أبي نواس في الخمرة على ما يعوضه عن المرأة، ويمده بالحياة، فقد تبين للنويهي دون سواه من الدارسين مدى تشكيلها بالنسبة إلى الشاعر ذلك المثار لرغبته الجنسية التي لا شك في أن النويهي قد استحضر مدى تكثيفها في حقيقتها لذينك الأمرين: الإقبال الشهوي على الطرف الآخر من جانب، والتوق من خلاله إلى استمرار الحيـاة من جانب آخر، لِما يحـقق من تجـديد النسـل. وقد توضّحَتْ للنويهي هذه الرغبة بصورة مباشرة من خلال إيـراد الشاعر ما تعـدَّدَ من الألفاظ والعبارات الدالة عليها: العذراء والبكر والفتاة... وبصورة غير مباشرة من خلال ما ذهب إليه علم النفس من عدم انحصار هذه الرغبة ما بين الذكر والأنثى، أو ما بين المثلين، إنما امتدادها في حال عدم تسنِّي مثل هذه العلاقة الطبيعية لتشمل الإحساس الجنسي حتى تجاه الأشياء التي لا حياة فيها كخمرة أبي نواس (16). ولا بد لنا هنا بصورة خاصة من أن نستحضر نظرية " فرويد " الأساسية التي يذهب فيها دائماً إلى تشكيل الرغبة الجنسية الليبيدية الناشطة أبداً في لا شعور الإنسان، المنطَلَق الرئيسي لسلوكه على مختلف الأصعدة، حتى ما يتعـلق منها بطعامه وشـرابه، وبصورة محـددة هنـا بشرب أبي نواس للخمرة(17):
ومثلما كان لأم أبي نواس دورها في إقباله الخاص على الخمرة معوضاً بها عن الحنان المفقود، كذلك تبيَّـن للنويهي دورها في شذوذه الجنسي ، وإقباله على الذكور دون الإناث اللائي وجد في كل منهن صورة لأمه الخائنة التي دلَّـت بزواجها الثاني على تخليها عن ابنها ، وإيثارها عليه رجلاً آخر. وبذلك يقول معبراً عن تخوفه من غدر جارية بالرغم من حبه لها ، وتوقه إلى مواصلتها (21) :
ويقول بالمقابل معبراً عن حبه للغلمان ، وعن إمكان توجُّه المرقّش إلى ذلك فيما لو أتيح له (23):
لَــوَ انَّ مـرقَّــشاً حــيٌّ تعـلَّـقَ قـلْـبُــه ذكــرَا (24)
ولعل في قصة أبي نواس مع شـذوذه ما يذكِّـر بقصة " ليوناردو دا فنشي " ، فهذا الثاني ـ هو الآخر ـ اتجه تلقائياً إلى الحب المثلي بفعل ما أدى إليه انفراده بأمـه دون أبيـه ، لكونه ابنـاً غير شرعي ، من عـدم تمكنه من إقامة عـلاقات حـب نسائية مستوية وسليمة (25). هذا وإن كان لا بد من أن نلحظ فارقاً ما بين منطلق كل من المبدعَيْن، فإذا ما كان أبو نواس قد توصَّـل إلى هذا النوع من الحب بدءاً من سـلبيته تجاه أمـه كما تبين، وردها على حب استئثاره بها بالخيانة، فقد توصَّـل إليه دافنشي بدءاً من إيجابيته تجاه أمـه هو، وتوقفه في علاقته معها عند حد تعلُّقه بها، واستجابته لطغيان حضورها عليه.
لكن تجدر الإشـارة، إلى أنـه إذا ما كان على النويهي أن يركـز ـ بحسب ما يقتضي سـياق البحث ـ على هذا العامل النفسي في شـذوذ أبي نواس، فإنه لم يجـد بداً من التطرق لعاملين آخرين لا يقلان شأناً: يتحدد أحدهما في التواء الشاعر الجسدي الذي جعله أقرب إلى الأنثى (26)، وثانيهما في طبيعة العصر العباسي الذي أتاح بانفتاحه على الحضارات مثـل ذلك (27). الأمـر الذي جعل الناقـد يقتدي بهذا الصدد بالدارسين الآخرين الذين لا يزالون يحارون أمام هذه الظاهرة، ويجدون في أساسها المعقَّد ما ينطوي على العديد من الاحتمالات (28) .
بل إنه إذا ما تبيَّـن للنويهي دور الأم في شذوذ أبي نواس، وتفضيله الذكور على الإناث ، كذلك تبين له بالمقابل دورها في حبه المخلص المتميز للجارية " جنان " التي وجد فيها مثال التعفف والطهر الأنثوي المفقودين لدى الأم ، أو بالأحرى التي كانت تحمله إرضاءً لها على الحذر والتوجس من استمراره في اتخاذ سلوكه الماجن (29):
لَـوْلا حِـذَاريَ مِنْ جِنَـانِ لَخَلعْتُ عَـنْ رأْسِـي عنَـانـي
وركـبْتُ مَـا أهْوَى وكـمْ أجْـفُو مقَالَـة مَـنْ نَهَـانـي (30)
وهكذا فإنه من خلال هذا الحب الذي يبدو صادقاً لجنان ، يُفتَرَض بالنويهي أن يكون قد استنتج احتمالين اثنين : يتمثل أحدهما في عدم تأصُّـل الشـذوذ الجنسي لدى الشاعر بصورة معمقة ، إنما توجهه الفطري إلى الأنثى ، حين أتاحت له الظروف ذلك ، وجعلته يلتقي من تستحق إخلاصه دون سواها من الإناث والذكور. ويتمثل الآخر في إمكان جمع الشاعر في نفسه وشعره ما بين ميله إلى الذكر وميله إلى الأنثى في آن واحد ، كما يذهب علم النفس بشأن بعض الشاذين(31) .
ومقابل انطلاق النويهـي لدى دراسـته نفسية أبي نواس من عقدة أوديب التي تعني تعلُّق الابن بأمـه ، انطلق العقاد لدى دراسته الشاعر ذاته ـ وفق المنهج ذاته ـ من عقدة أخرى هي النرجسية التي تعني عشـق الإنسـان لذاته الفردية دون سواها(32).
هذا وإن كنا لا نجد تباعداً ما بين العقدتين ، بل قدراً من الترابط شبه وثيق، وذلك ضمن علم النفـس ، لأنه حين يتم التعـلق بالأم ، لا يكـون ذلك إلا بفعـل ما يفرض التعـلق بالذات ، نظراً لتشـكيل الأم هذه الذات الأصليـة التي يتأتـى منها الابـن (33)، والتي ـ كما يتبين لنا من جانب آخـر ـ تُحَقِّق بأنوثتها المكمـل الأول لذكورتـه. وكذلك الأمر لدى تجربة أبي نواس الخاصة ، وإن تحقَّقَ فيها هذا الترابط بصورة معكوسة ، قائمة على تشكيل عقدة أوديب لديه أساس نرجسيته ، وذلك بصورة إيجابية في البداية ، متمثلة فيما أدى إليه حب أمه وتدليلها له بعد طلاقها من أبيه من تأثره به محباً ـ هو الآخر ـ لنفسه (34). ثم بصورة سلبية متمثلة فيما أدى إليه انصرافها عنه، وتحويل بيتها إلى مبغىً، ثم بزواجها الثاني من ردة فعل عنيفة جعلته ينكفئ على ذاته هذه مشـفقاً عليها من إهمـال أمـه.
وقد تجلت للعقاد نرجسية أبي نواس بدءاً من السلوك الإباحي الذي اتخذه، والذي إذا ما نمَّ لدى الشعراء الآخرين على عدم المبالاة بذواتهم حين إظهارها للناس وفق أي درجة من التهتك، فإنه نمَّ لدى أبي نواس حين إظهار ذاته هكذا على محاولته التركيز عليها، وتحقيق حضورها وإن بهذه الطريقة غير المرضية (35) :
هذا وإن كنا لا نعدم النرجسية في حال دلالـة الإباحيـة لدى أولئك الشعراء الآخرين على عدم مبالاتهم بذواتـهم، لأنهم يعبِّـرون بذلك أيضاً عن عـدم مبالاتهم بسـواهم الذين تظهر أمامهم هذه الذوات ، أو يعبِّـرون عن ذلك الشطر من النرجسية التي تعني مقابل عشق الذات إهمال من هم خارجها. وبناءً على ذلك، لا ينبغي أن نتغافل أيضاً عما يمكن أن يكون قد حقق الشطر الأخير المذكور من استكمال لنرجسية الإباحية لدى أبي نواس، وذلك حين بدا مقابل حرصه على إبراز ذاته غير حريص على مشاعر من يتلقون عنه صورة هذه الذات.
وهكذا فإن أبا نواس حين يشرب الخمرة، لم يفعل ذلك ـ وفق منظور العقاد ـ بهدف تحقيق التـلذذ لذاته، إنما بهدف المجاهرة بسلوكه أمام الآخرين، ومن ثم إثبات مخالفته لهم ، ومن ثم إبراز ذاتـه وتمييزها على حساب ذواتهم ، وإن انطوى هذا كله على الحرام ، بل إن الحرام هنا هو المطلوب لدى الشاعر ما دام سيوصله هو ذاته بلفت الأنظار تجاهه إلى مبتغاه (37):
علماً أنه ما كان يُفتَرَض بالعقاد أن يستبعد ما يمكن أن تكون قد أملت نرجسية الشاعر من ذلك التلذذ بشرب الخمرة، نظراً لِما يمكن أن يكون قد حقَّقَ له من تلبية لذاته الفردية، وإرواء حاجاتها، وإن بدت التلبية هنا مقتصرة في تحققها أمام صاحب هذه الذات على نقيض المجاهرة التي تلبي هذه الذات أمام صاحبها وأمام الآخرين، وتحقق نرجسيتها بصورة أعلى وأكثر اتساعاً.
كما أنه ضمن ما تفرع من سلوك أبي نواس الإباحـي، تجلـت للعقـاد تلك النرجسية أيضاً من خلال شـذوذ الشاعر الجنسي الذي فسَّـره علم النفس بهذا الصدد، أي بصدد النرجسية، بأنه تعلُّق الإنسان الذي يعشـق ذاته بمن ينتمي إلى جنسـه تحديداً ، نظراً لما يرى فيه من متلبِّـس لهذه الذات ، أو ما يشبهها (39) ، وذلك على نقيض من يتحرر من الطور النرجسي بعد عبوره مرحلة الطفولة ، وينعتق في سـن الرشـد من تعلقه بذاته نحو من ينتمي إلى الجنس الآخر (40). أو بعبارة أخرى نستطيع القول : إن الشـاذ بعثوره على من يتعلَّق به من ابن جنسـه ، ربما يكون قد عثر على من مثَّـل له مرآة " نرسيس " الأسطورية التي عكست أمامه ذاته فهام بها (41). أو ربما عثر على من عوضه عن هذه الذات التي طالما اشتهاها ، ولم يجد من سبيل لتلبية رغباته تجاهها ، وإن شكلت ملكاً شخصياً له.
وقد اسـتدل العقـاد على ما ذهب إليه بشأن النرجسية في شذوذ الشاعر، من خلال تعلقه بغلام يماثله في اللثغة ، وإن كانا يتباينان فيها ما بين حرفي السين والراء (42) :
وَابـأَبِـي أَلْثَــغَ لاجَجتُـــهُ فقـال فـي غُنْـجٍ وإخْنـاثِ
وإن لم يفصِّـل العقاد في معالم هذا التوحـد ، ويوضح ما إذا كان يتحدد في إمكان إطلاق هذا الاسم على الذكور والإناث معاً ، أو في دلالته على الجمال الذي ذُكِر أنه شكّـل إحدى صفات الشـاعر .
وبعـد ، فعلى الرغم من تحقق النرجسية لدى أبي نواس وفق هذه الصورة الواضحة المتميزة ، فإننا نستطيع أن نذهب إلى ما ذهب إليه " لاكـان " ، وذلك من حيث انتقـاده الإفراط في دراسة هذه العقدة ، أو التي أطلَق عليها مرحلة " المرآة " (49)، لأنه إذا كان لا بد من التسليم بوجودها في الحياة البشرية عامة ، فليس ضرورياً أن تكون على درجة واحدة لدى الأفراد جميعاً ، بل لا بد من تفاوتها فيما بينهم قوةً وضعفاً ، بحسب الظروف النفسية والخارجية التي تخص كلاً منهم. ومن ثم فإن أبا نواس ، إذا ما كان نرجسياً بصورة بارزة ، فلا يعني هذا بالضرورة تماثل الشعراء الآخرين معه ، المعاصرين له أو غير المعاصرين ، ما داموا لم يماثلوه في جوانب حياته الخاصة.
وهكذا، فإنه إذا ما قـدَّم الناقدان السابقان دراستين متباينتين حول أبي نواس ، بدءاً من تباين العقدتين النفسيتين اللتين انطلق كل ناقد من إحداهما ، فلا يُفتَرَض بالنتائج التي توصَّـل كل منهما إليها أن تقتصر ـ هي الأخرى ـ على التباين ، وإن بدا هذا أمراً تلقائي الحدوث ، بل ربما تدخلان إطار التكامل ، بناءً على حمل كل منهما جزءاً من الحقيقة المتعلقة بالشاعر، أو إطار الاحتمالين الاثنين اللذين يتفاوتان في درجة وضوحهما ما بين متلقٍّ وآخر ، وما يعني هذا كله من تشكيل الدراستين المذكورتين من تمهيد للمزيد من الدراسـات التي من شأنها أن تقدم المزيد من التكاملات ، أو الاحتمالات ، سواء أضِمن المجال النفسي ذاته أم سواه. أو بعبارة أكثر تحديداً ووضوحاً: إن حب الخمرة لدى أبي نواس ، إذا ما شكّـل ـ وفق منظور النويهي ـ محاولة من الشـاعر للتعويض عن حنان الأم الذي فقده ، ووفق منظور العقاد محاولة من الشـاعر للتباهي وإثبات الذات ، فإن هاتين النتيجتين ليس ضرورياً أن تظهرا متناقضتين متباعدتين مندرجتين ضمن مقولـة : إما هذه وإما تلك ، إنما ربما ضِمن هذه وتلك معاً ، أو ربما ضِمن هذه بنسـبة معينـة وتلك بنسـبة معينـة يحـددها كل متلقٍّ ، أو كل باحث بمفرده وفقـاً لما يرى .
أما بالنسبة إلى الذين يتفاوتون في درجات تقبلهم لتطبيق المنهج النفسي بصورة عامة ، ولا سيما على الأدب القديـم، فلا يمكن الإدلاء إلا بأن هذا المنهـج ـ وبغضّ النظـر عن مدى رجاحته ومنطقيته ـ لا يُهدَف من خـلاله في النهاية ـ شـأنه شـأن أي منهج آخر ـ إلا إلى سـبر واحد من أسرار الأدب ، واحد من حقائقه التي ستبقى بحاجة إلى مثل ذلك ، بناءً على إغتناء العالم الأدبـي بها ، وتفاوتها ضمنه في درجات وضوحها. (4) أبو نواس ، الحسن بن هانئ ح هـ. الديـوان, حققه وضبطه وشرحه أحمد عبد المجيد الغزالي ، دار الكتـاب العربي ، بيروت ،
د–ت ، ص 24 .
د–ت ، ص 24 .
(5)فرويد ، سيجموند س. سـيكولوجيا الشذوذ النفسي عند الجنسين ، ترجمة فؤاد ناصر ، الطبعة الأولى ، منشورات حمد ، بيروت ، 1959 ، ص 61 .
(6)الحفنـي، عبد المنعم ع. موسوعة الطب النفـسي ـ الكتاب الجامع في الاضطرابات النفسية وطرق علاجها نفسـياً ، المجلد الأول، الطبعة الثانية ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، 1995 ، ص 34 - 37 .
(8) أبو نواس. الديـوان ، ص 192. تراضعوا : اشترك الندمان في الرضاعة – الدِّرة : اللبن الكثير – الصهباء الخمرة .
(9) مجموعة من المؤلفين. جاك لاكان وإغواء التحليل النفسي ، إعداد وترجمة عبد المقصود عبد الكريم ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة، 1999 ، ص 22 - 23 .
(17) الحفنـي ، عبد المنعم ع. موسوعة الطب النفسي ـ الكتاب الجامع في الاضطرابات النفسية وطرق علاجها نفسـياً ، المجلد الثاني ، الطبعة الثانية ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، 1999 ، ص 355 - 356 .
(25) سويف ، مصطفى م. الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ، الطبعة الثالثة ، دار المعارف بمصر ، ص 79 .
(33) مجموعة من المؤلفين. النرجسـية ـ حـب الذات ، ترجمة وجيـه أسـعد ، منشـورات وزارة الثقافة السورية ، دمشق ،
1989 ، ص 9 .
1989 ، ص 9 .
(34) مجموعة من المؤلفين. النرجسـية ، ص 10 .
(35) العقاد ، عباس محمود ع م. أبو نواس ـ الحسن بن هانئ ـ دراسة في التحليل النفسـاني والنقـد التاريخي ، مطبعة الرسالة ، د – ت ، ص 29 – 31 .
0 التعليقات:
إرسال تعليق